تجاور الأشكال الشعرية في القصيدة العربية المعاصرة
ثقافة
الثلاثاء 27-10-2009م
ممدوح السكاف
منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين وحتى يومنا الحاضر ونحن في العقد الأول من الألفية الثالثة نقع على لفيف من الأدباء والنقاد والقراء
يتعصب لشكل شعري دون آخر تبعاً لطبيعة تربيته الفكرية وثقافته الأدبية وتذوقه للشعر ويتحزب له ويدافع عنه بل ويبالغ في تقديره والإعجاب به وينفي قيمة غيره من الأشكال الشعرية المستعملة ويعدها من سقط المتاع أو لهو الكلام وفي هذا كله بعد عن النصفة والموضوعية وقرب من التطرف والذاتية.
(1)
حول مسألة تجاور الأشكال الشعرية نمطاً إلى جانب نمط يبدو لي أن موضوع شكل قصيدة الشطرين المتوارث ليس شكلاً مرفوضاً ويجب ألا يكون مستنكراً أو مستهجناً أو مضطهداً من معارضيه ومناوئيه، فأحياناً يكون هذا الشكل محبباً ومرحباً به لأنه وعاء مناسب للتعبير عن مضمون مناسب له لا يمكن أن يحل محله شكله النقيض له أي قصيدة التفعيلة أو قصيدة (النثر) ولا يفي بالغرض المطلوب أو التأثير المرتجى، ومن المعروف أن ثمة شعراء حداثيين في الوطن العربي يكتبون بعض قصائدهم -حين تملي الضرورة الاجتماعية والفنية نفسها- على النمط التقليدي (الخليلي) منهم بدر شاكر السياب ونزار قباني ومحمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي وسعدي يوسف وغيرهم وحتى (أدونيس) وهو من هو شاعر تفعيلة وشاعر قصيدة نثر يلجأ إلى هذه الحالة الخاصة في إنتاجه الشعري عندما تكون حاجة هذا المضمون لا تتبدى على الوجه الأكفأ إلا في شكل نظام البيت، فقد كتب مجموعة عموديات لكن حشوتها جاءت حداثية في أدائها ولغتها وصورها وتعبيرها وبنيتها الفنية بوجه عام.
(2)
متابعة لما سبق يرى بعض شعراء الحداثة (العربية) ونقادها المتمرسين بدراستها نظرياً وتطبيقياً أن الحداثة الشعرية قد قام بنيانها الأولي في معطياتها الإنتاجية المبكرة -عبر البيانات النقدية المعرفية لروادها الأوائل في أجيالهم المتعاقبة- من أجل تشريع الأبواب والنوافذ على مصاريعها أمام القصيدة العربية المختنقة خلال أحقاب طويلة من ماضيها السحيق برتابة النمط الواحد المعهود المكرور في توارثه المتواتر وآلية النموذج المهيمن المقدس المستبد في سلطانه وسلطته ومقدرته على التأطير والقولبة لهذا الشكل المورث والخروج به إلى عالم جديد متناغم مع إيقاعات العصر الجديد ومستحدثاته ومبتكراته في مختلف شؤون الحياة الإنسانية وميادينها العملية الإنتاجية وتأسيساً على ذلك كانت حركة الحداثة مشروعاً حضارياً استثنائياً في فرادته وعالميته يسعى لتحقيق هدف الحرية الإبداعية بالذات، كما كانت أفقاً رحباً مفتوحاً على العديد من التجارب والإرهافات والمغامرات الفنية ذات الطعم المدهش والنكهة الغريبة وحين يرفض المتوترون من شعراء قصيدة النثر جميع الأشكال السابقة على نموذجهم الأحد في لا معنى المعنى السائد لدى معظمهم وفي طرق التعبير الأسلوبي المستخدمة من قبلهم والمتأثرة في أغلبيتها بنماذج من الشعر الأوروبي السيريالي والرمزي المترجم إلى العربية وما فيه من إغلاق وإيهام فإنما يقعون في المصيدة نفسها التي وقع فيها أباطرة القصيدة العمودية السلفية المتعاورة على تاريخنا الشعري كما أنهم يضيقون مساحة التحرر البنائي للشعر بمختلف وسائله وأدواته التي منحتها حركة الحداثة للشعر العربي جسداً وإهاباً ويستبدلون عبودية سابقة بعبودية لاحقة ونمطاً متقدماً بنمط متأخر ويعيدون مأزقاً من مآزق شعرنا العربي مضموناً وأغراضاً وأسلوباً وسربالاً إلى نقطة بداية استبدادية في طوطميتها.
إن ذريعة هؤلاء المتشددين في وجوب التخلي عن البحر العروضي المستخدم منذ ألف وخمسمئة عام وضربه باستهانة عرض الحائط والمروق من التفعيلات الوزنية تقليدية كانت أم حداثية ليست حجة ضد الموازين الخليلية ذاتها بل ضد غير القادرين المتمرسين من الشعراء على (تفعيل) قصائدهم وتحويلها بالاتكاء على ذلك الوزن وهو المولد الأساسي لإيقاعية الإيقاع إلى عائق قمعي في وجه الحرية لا إلى فضاء لها، فالوزن لا يغدو كابحاً للإبداع إلا حين تشح الموهبة وتضمحل وتفتقر إلى معرفة جوهر الشعر ونظريته وتنضب فيها القدرة والموهبة على العطاء والثراء وتؤخذ بالموجات الوافدة دون أن تدقق ملياً في أهليتها لإبداع شعر عظيم خالد على مدى الزمان تتناقله أجيال الأمم والشعوب وتبني على أساسه وجدانها القومي.
إن أحد أهم شعراء قصيدة النثر وهو (أدونيس) وزّان شعري من الدرجة الباذخة وأستاذ لايبارى في هذا الميدان وقد مارس في شعره جميع الأشكال الشعرية المطروحة على الساحة الآن، من نظام البيت ذي الشطرين إلى نظام الشعر المفعل في شطرات إلى شكل قصيدة النثر وأجاد فيها كلها بدرجات متفاوتة من حيث مستوى البنية واللغة والصورة والصدى والتأثير والمردود والقيمة الجمالية.
صحيح أن محمد الماغوط وهو من هو في عالم قصيدة النثر لا يعرف من الوزن إلا اسمه ولفظه ويرفضه رفضاً قاطعاً مطلقاً بل ويتهكم عليه ويسخر منه لكنه في جماع (دواوينه) قد استعاض في قصيدته عن الإيقاع الوزني المعروف المتداول باستخدامه لبدائل مختلفة (لا مجال لعرضها الآن) يمكن لها بقدر أو آخر أن تعوضه أحال من خلالها نصه إلى امتياز إبداعي بجدارة يغبط عليها.
إن مضمون القصيدة العربية المعاصرة بأشكالها المختلفة هو لحاء يتعضى بالشكل أو العكس ولا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر، ورجحان احدهما عن الثاني قد يعني بصورة ما موقفاً فكرياً أو نقدياً أو جمالياً أو روحياً من الشاعر تجاه الهوية الشعرية لشعره، وأعتقد أن له مطلق الحرية في امتلاكها وحيازتها والحفاظ عليها والذود عن وجودها وتمكين دعائمها بما يعمق دورها في حياة الفرد والجماعة ويجعلها حاجة بديعية متطلبة لمن يبتغيها أو ينشدها.
الشعر شكل يلتحي بالمحتوى أو محتوى يلتحيه الشكل، إنه يشبه ثنائية الروح والجسد في الكينونة الإنسانية والتأثير التبادلي بينهما من خلال وحدة ملتحمة بسداها وقدرة على الإبداع تفصح عن مستواها.
....thawra.alwehda.gov.sy/_archive.asp?FileName=62673192920091026211649